كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَقَالَتِ امرأة فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ} أي هو قرّة عين، {لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ} فإنّ الله أتانا به من أرض أُخرى وليس من بني إسرائيل، {عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بما هو كائن من أمرهم وأمره، عن مجاهد، قتادة {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} إنّ هلاكهم على يديه، محمد بن زكريا بن يسار {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} إنّي أفعل ما أريد ولا أفعل ما يريدون.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا طلحة وعبيد الله قالا: حدّثنا أبو مجاهد قال: حدّثني أحمد بن حرب قال: حدّثنا سنيد قال: حدّثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} يقول: لا يدري بنو إسرائيل إنّا التقطناه، الكلبي {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} إلاّ وإنّه ولدنا.
{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَارِغًا} أي خاليًا لاهيًا ساهيًا من كلّ شيء إلاّ من ذكر موسى وهمه، قاله أكثر المفسّرين، وقال الحسن وابن إسحاق وابن زيد: يعني فارغًا من الوحي الذي أوحى الله سبحانه وتعالى إليها حين أمرها أن تلقيه في البحر ولا تخاف ولا تحزن، والعهد الذي عهدنا إليه أن نردّه إليها ونجعله من المرسلين، فجاءها الشيطان، فقال: يا أُمّ موسى كرهتِ أنْ يقتل فرعونُ موسى فتكون لك أجره وثوابه، وتولّيتِ أنت قتله، فألقيتِهِ في البحر وغرّقته.
ولمّا أتاها الخبر بأنّ فرعون أصابه في النيل قالت: إنّه وقع في يدي عدوه والذي فررت به منه، فأنساها عظيم البلاء ما كان من عهد الله سبحانه إليها، فقال الله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَارِغًا} من الوحي الذي أُوحي إليها، وقال الكسائي: {فَارِغًا} أي ناسيًا، أبو عبيدة: {فَارِغًا} من الحزن لعلمها بأنّه لم يغرق، وهو من قول العرب: دم فرغ إذا كان هدرًا لا قِوَد فيه ولا دية.
وقال الشاعر:
فإن تك أذواد أصبن ونسوة ** فلن تذهبوا فرغًا بقتل حبال

العلاء بن زيد {فَارِغًا} نافرًا، وقرأ ابن محيض وفضالة بن عبيد: {فَزِعًا} بالزاي والعين من غير ألف، {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} قال بعضهم: الهاء في قوله: {بِهِ} راجعة إلى موسى ومعنى الكلام: إنْ كادت لتبدي به أنّه ابنها من شدة وجدها.
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، قال: أخبرنا مكي بن عبدان، قال: حدّثنا عبد الرحمن ابن بشر، قال: حدّثنا سفيان، عن أبي سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} قال: كادت تقول: وا ابناه، وقال مقاتل: لما رأت التابوت يرفعه موج ويضعه آخر، فخشيت عليه الغرق، فكادت تصيح من شفقها عليه، الكلبي: كادت تُظهر أنّه ابنها، وذلك حين سمعت الناس وهم يقولون لموسى بعدما شبّ: موسى بن فرعون، فشق عليها فكادت تقول: لا، بل هو ابني، وقال بعضهم: الهاء عائدة الى الوحي أي {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي} بالوحي الذي أوحينا إليها أن نردّه عليها.
{لولا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا} قوّينا قلبها فعصمناها وثبّتناها {لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين} المصدّقين الموقنين بوعد الله عزّوجل: {وَقَالَتْ} أم موسى {لأُخْتِهِ} لأخت موسى واسمها مريم {قُصِّيهِ} ابتغي أثره حتى تعلمي خبره، ومنه القصص لأنّه حديث يتبع فيه الثاني الأول، {فَبَصُرَتْ بِهِ} أبصرته {عَن جُنُبٍ} بُعد، وقال ابن عباس: الجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى الشيء البعيد وهو إلى جنبه لا يشعر به.
وقال قتادة: جعلت تنظر إليها كإنّها لا تريده، وكان يقرأ: {عَن جُنُبٍ} بفتح الجيم وسكون النون، وقرأ النعمان بن سالم عن جانب أي عن ناحية {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أنها أُخته {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع} وهي جمع المرضع، {مِن قَبْلُ} أي من قبل مجيء أم موسى، وذلك أنّه كان يؤتى بمرضع بعد مرضع فلا يقبل ثدي امرأة، فهمَّهم ذلك، فلمّا رأت أُخت موسى التي أرسلتها أُمّه في طلبه ذلك، وما يصنع به، فقالت لهم: {هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} أي يضمنونه ويرضعونه ويضمّونه إليهم، وهي امرأة قد قتل ولدها، فأحبّ شيء إليها أن تجد صبيًا صغيرًا فترضعه، {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} والنصح: إخلاص العمل من شائب الفساد، وهو نقيض الغش، قالوا: نعم، فأتينا بها فانطلقت إلى أُمّها فأخبرتها بحال ابنها وجاءت بها إليهم، فلمّا وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها فذلك قوله: {فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أنّ الله وعدها ردّه إليها.
قال السدي وابن جريج: لما قالت أخت موسى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} أخذوها وقالوا: إنّكِ قد عرفتِ هذا الغلام، فدلّينا على أهله، فقالت: ما أعرفه ولكني إنّما قلت: هم للملك ناصحون، {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} قال الكلبي: الأَشُدّ: ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة، وقال سائر المفسّرين: الأشد ثلاث وثلاثون سنة، {واستوى} أي بلغ أربعين سنة.
أخبرنا أبو محمد المخلدي، قال: أخبرنا أبو الوفاء المؤمل بن الحسن بن عيسى، قال: حدّثنا الحسن بن محمد بن الصباح، قال: حدّثنا يحيى بن سليم، قال: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله سبحانه: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ واستوى} قال: الأشدّ: ثلاث وثلاثون سنة، والاستواء: أربعون سنة، والعمر الذي أعده الله إلى ابن آدم ستون سنة، ثم قرأ: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النذير} [فاطر: 37].
{آتَيْنَاهُ حُكْمًا} عقلا وفهمًا، {وَعِلْمًا} قال مجاهد: قيل: النبوة، {وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين}.
{وَدَخَلَ} يعني موسى {المدينة} قال السدي: يعني مدينة منف من أرض مصر، وقال مقاتل: كانت قرية تدعى خانين على رأس فرسخين من مصر.
{على حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا} قال محمد بن كعب القرظي: دخلها فيما بين المغرب والعشاء، وقال غيره: نصف النهار عند القائلة، واختلف العلماء في السبب الذي من أجله دخل موسى هذه المدينة في هذا الوقت، فقال السدّي: كان موسى عليه السلام حين أمر بركب مراكب فرعون وبلبس مثل ما يلبس، وكان إنّما يدعى موسى بن فرعون، ثم إنّ فرعون ركب مركبًا وليس عنده موسى عليه السلام، فلمّا جاء موسى قيل له: إنّ فرعون قد ركب، فركب في أثره، فأدركه المقيل أرض يقال لها: منف، فدخلها نصف النهار وقد تقلّبت أسواقها، وليس في طرقها أحد، وهو الذي يقول الله سبحانه: {وَدَخَلَ المدينة على حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا}.
قال ابن إسحاق: كانت لموسى من بني إسرائيل شيعة يسمعون منه ويقتدون به ويجتمعون إليه، فلمّا اشتد رأيه وعرف ما هو عليه من الحق رأى فراق فرعون وقومه، فخالفهم في دينه وتكلّم وعادى وأنكر حتى ذكر ذلك منه، وحتى خافوه وخافهم، حتى كان لا يدخل قرية إلاّ خائفًا مستخفيًا، فدخلها يومًا {وَدَخَلَ المدينة على حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا}.
قال ابن زيد: لمّا علا موسى فرعون بالعصا في صغره قال فرعون: هذا عدونا الذي قتلت فيه بني إسرائيل، فقالت امرأته: لا بل هو صغير، ثم دعت بالجمر والجوهر، فلمّا أخذ موسى الجمرة وطرحها في فيه حتى صارت عقدة في لسانه، ترك فرعون قتله وأمر بإخراجه من مدينته، فلم يدخل عليهم إلاّ بعد أن كبر وبلغ أشدّه، {وَدَخَلَ المدينة على حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا} عن موسى أي من بعد نسيانهم خبره وأمره لبُعد عهدهم به.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: في قوله: {حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا} كان يوم عيد لهم قد اشتغلوا بِلَهْوِهِم ولعبهم، {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هذا مِن شِيعَتِهِ} من أهل دينه من بني إسرائيل، {وهذا مِنْ عَدُوِّهِ} من مخالفيه من القبط، قال المفسرون: الذي هو من شيعته هو السامري، والذي من عدوّه طباخ فرعون واسمه فليثون.
وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا موسى بن محمد، قال: حدّثنا الحسن بن علوية، قال: حدّثنا إسماعيل بن عيسى، قال: حدّثنا المسيب بن شريك قال: اسمه فاثون وكان خباز فرعون، قالوا: يسخّره لحمل الحطب إلى المطبخ، روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لمّا بلغ موسى أشده، وكان من الرجال لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة حتى امتنعوا كل الامتناع، فبينما هو يمشي ذات يوم في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان أحدهما من بني إسرائيل، والآخر من آل فرعون، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فغضب موسى واشتد غضبه؛ لأنّه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل وحفظه لهم ولا يعلم الناس لاّ إنّما ذلك من قبل الرضاعة من أُمّ موسى، فقال للفرعوني، خلِّ سبيله، فقال: إنّما أخذه ليحمل الحطب إلى مطبخ أبيك، فنازع أحدهما صاحبه، فقال الفرعوني لموسى: لقد هممت إلى أن أحمله عليك.
وكان موسى قد أوتي بسطة في الخلق وشدة في القوة والبطش، {فَوَكَزَهُ موسى} بجمع كفّه ولم يتعمد قتله، قال الفرّاء وأبو عبيدة: الوكز: الدفع بأطراف الأصابع، وفي مصحف عبد الله {فنكزه} بالنون، والوكز واللكز والنكز واحد، ومعناها: الدفع، {فقضى عَلَيْهِ} أي قتله وفرغ من أمره، وكلّ شيء فرغت منه فقد قضيته، وقضيت عليه، قال الشاعر:
أيقايسون وقد رأوا حفاثهم ** قد عضّه فقضى عليه الأشجع

أي قتله.
فلمّا قتله موسى ندم على قتله، وقال: لم أومر بذلك ثم دفنه في الرمل {قَالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} بالمغفرة فلم تعاقبني {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا} عونًا ونصيرًا {لِّلْمُجْرِمِينَ} قال ابن عباس: لم يستثن فابتلى، قال قتادة: يعني فلن أعين بعدها على خطيئة، أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن خالد، قال: حدّثنا داود بن سليمان، قال: أخبرنا عبد بن حميد، قال: حدّثنا عبيد الله بن موسى، عن سلمة بن نبيط قال: بعث بعض الأمراء وهو عبد الرحمن بن مسلم إلى الضحاك بعطاء أهل بخارى، وقال: أعطهم، فقال: اعفني، فلم يزل يستعفيه حتى أعفاه، فقال له بعض أصحابه: وأنت لا ترزأ شيئًا، فقال: لا أحب أن أعين الظلمة على شيء من أمرهم.
وبه عن عبد الله قال: حدّثنا يعلى، قال حدّثنا عبيد الله بن الوليد الوصافي قال: قلت لعطاء بن أبي رياح: إنّ لي أخًا يأخذ بقلمه، وإنّما يكتب ما يدخل وما يخرج، قال: أخذ بقلمه كان ذلك غنىً وإن تركه احتاج، وصار عليه دَين وله عيال، فقال: من الرأس؟ قلت: خالد بن عبد الله، قال: اما تقرأ ما قال العبد الصالح: رب بما أنعمت عليَّ فلن أكون ظهيرًا للمجرمين، فلا يعينهم فإن الله تعالى سيغنيه.
{فَأَصْبَحَ فِي المدينة خَآئِفًا} من قتله القبطي أن يؤخذ فيُقتل به، {يَتَرَقَّبُ} ينتظر الأخبار، {فَإِذَا الذي استنصره بالأمس يَسْتَصْرِخُهُ} يستغيثه، وأصل ذلك من الصراخ، كما يقال: قال بني فلان: يا صاحبًا.
قال ابن عباس: أتى فرعون فقيل له: إن بني إسرائيل قد قتلوا رجلا منّا، فخذ لنا بحقّنا ولا ترخص لهم في ذلك، فقال: أبغوا لي قاتله ومن يشهد عليه، فلا يستقيم أن يقضى بغير بيّنة ولا ثبت فاطلبوا ذلك، فبينا هم يطوفون ولا يجدون ثبتا إذ مرّ موسى من الغد فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونيًا آخر يريد أن يسخّره، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فصادف موسى، وقد ندم على ما كان منه بالأمس من قتله القبطي، فقال موسى للإسرائيلي: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} ظاهر الغواية حين قاتلت أمس رجلا وقتلته بسببك، وتقاتل اليوم آخر وتستغيثني عليه.
وقيل: إنّما قال للفرعوني: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} بتسخيرك وظلمك، والقول الأول أصوب وأليق بنظم الآية.
قال ابن عباس: ثم مد موسى يده وهو يريد أن يبطش بالفرعوني، فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعدما قال له: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس فخاف أن يكون بعدما قال له: إنك لغوي مبين أراده، ولم يكن أراده، إنّما أراد الفرعوني، فقال: {قَالَ ياموسى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بالأمس إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأرض} بالقتل ظلمًا، قال عكرمة والشعبي: لا يكون الإنسان جبارًا حتى يقتل نفسين بغير حق.